البهائيون في اليمن
امتزج تاريخ الدين البهائي بأرض اليمن الحبيبة منذ بزوغ شمسه الأول. ففي عام 1260 هجرية (الموافق 1844م) تشرفت ميناء "المخا" بقدوم شابٍ مبشرٍ بظهور دين جديد هو علي محمد الشيرازي معروف بحضرة "الباب". ففي حجته الشهيرة تشرفت مياه وشواطئ بحر العرب والبحر الأحمر بعبوره في رحلتي ذهابه وعودته. مدينة "المخا" والتي كانت ميناءاً عالميا ومدينة تجارية هامة قبل أكثر من خمسة قرون عادت مرة أخرى إلى واجهة التاريخ حينما وطأتها أقدام "حضرة الباب" سليل بيت النبوة، في رحلته التي أعلن فيها للعالم بزوغ نور يوم جديد من أيام الله، ليتحقق ما كان ينتظره ويترقبه الملايين بشوق. لم تكن هذه الحادثة التاريخية الهامة نهاية مطاف علاقة الدين الجديد بأرض اليمن السعيد. فعندما حكمت الإمبراطورية العثمانية بحبس "حضرة بهاء الله" في سجن عكا بفلسطين، عادت شواطئ ومواني اليمن لتشهد مرور أعداد متزايدة من المؤمنين الأوائل بالدين البهائي والمحبين لحضرته والمنجذبين إلى آياته وكلماته. فالمسار المائي عبر بحر العرب وباب المندب والبحر الأحمر هو الطريق الذي سلكه جّمٍ غفيرٍ من أهل المشرق القاصدين زيارة "حضرة بهاء الله" في سجنه. أسماء معروفة عديدة توقفت في مدن وموانئ هذا المسار بمن فيهم عدد من علماء ذلك الزمان العظام. ولربما تكشف الأيام المزيد من المعلومات عن تلك الحقبة الهامة من تاريخ الدين البهائي وما كان يدور من حوار بين أهل اليمن والعابرين من أتباع الدين الجديد وعشّاقه. استمر مرور البهائيين بأرض اليمن السعيد وتتابع احتكاك أهلها الكرام بهم. ونظراً لما يتمتع به أهل يمن الإيمان والحكمة من تميز روحي خاص فقد تجذرت محبة حضرة بهاء الله تدريجيا في مجتمعها، وتعلقت قلوب العديدين بنور الدين الجديد، إلى أن أصبح البهائيون اليوم أحد المكونات الأصيلة في المجتمع اليمني. منذ فجر التاريخ واليمن موئل الحضارات والتنوع والتعايش وقبول الآخر. وكما كانت أرض السعيدة سبّاقة في احتضان مختلف الأديان والطوائف (كالإسلام واليهودية والمسيحية والزرادشتية وغيرها)، فقد احتضنت الدين الجديد بنفس الروح الايمانية التوّاقة إلى نور الحقيقة، وصار العديد من أبنائها بهائيون يسعون لخدمة ورخاء وطنهم الغالي انطلاقاً من حبهم لأرضهم المعطاءة وما يمليه عليهم إيمانهم بتعاليم تحثهم على خدمة الإنسان والوطن والعالم، وتوجههم إلى العمل من أجل رقي وتقدم بلادهم ومجتمعهم وأبناء وطنهم يد بيد مع أتباع مختلف الأديان والعقائد والمشارب دون تمييز. "عَاشِرُوا يَا قَوْمِ مَعَ الأَدْيَانِ كُلِّهَا بِالرَّوْحِ وَالرَّيْحَانِ. كَذَلِكَ أَشْرَقَ نَيِّرُ الإِذْنِ وَالإِرَادَةِ مِنْ أُفُقِ سَمَاءِ أَمْرِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ" حضرة بهاء الله تشير القرائن التاريخية إلى تواجد البهائيين في العديد من المدن والقرى اليمنية كعدن والمكلا وصنعاء وتعز والحديدة وإب وسقطرى ولحج وغيرها. وقد ترك العديد منهم بصمات مشهودة في تطور وتنمية مجتمعاتهم. فبهائيو اليمن كانوا من أوائل الذين مارسوا مهن صحية حديثة في عدد من المدن الرئيسية وأدخلوا خدمات كالصيدلة وطب الأسنان والعيون وغيرها في مدن كصنعاء ولحج وسقطرى والحديدة، وتعز وإب وغيرها. كما ساهم عدد منهم في تخطيط وعمران اليمن الحديث، وشاركوا في وضع اللبنات الأولية في العديد من المجالات التنموية الهامة كالتعليم والصحة والعمران والتجارة. أسماء عديدة يحفل بها تاريخ البهائيون في اليمن منهم على سبيل المثال وليس الحصر الأستاذ كمال بن حيدرة، والذي كرّمه سلطان المهرة عيسى بن علي بن عفرار في قشن وسقطرى ومنحه لقبه الخاص "الحيدّرة" تقديرًا لحبه وتفانيه في خدمة وطنه ومواطنيه وتطوعه لتقديم الخدمات الطبية لأهالي واحدة من أبعد الجزر اليمنية منذ أكثر من 60 عاماً. هناك نماذج مماثلة أخرى كالشيخ محمد مهدي مولوي في عدن، والحاج عبدالله أنور في صنعاء وغيرهم سواء من أبناء اليمن أو من وفدوا إليها. اليوم يسعى بهائيو اليمن من أبناء القبائل والحاضرة للمساهمة الجادة في بناء وتنمية بلدهم ومجتمعهم، والعمل من أجل مستقبل مشرق يليق بتاريخ وحضارة اليمن واليمنيين. وهم يعملون يدا بيد مع أبناء مجتمعاتهم من مختلف الأطياف والانتماءات والقبائل والطوائف على تنمية الانسان وبناء قدراته، وتعزيز ثقافة التسامح والتعايش في المجتمع والعمل على رأب وصدع الخلافات ونبذ العنف والتعصب. فهم يؤمنون بأن النماء والرقي المادي والروحي للمجتمع هو طريق التقدم لبلد الإيمان والحكمة. مدينة المخا وتراثها الثقافي المخا، واحدة من المدن اليمنية القلائل التي تمتعت بخصائص ومقومات المدينة العالمية لردح من الزمن، فقد كانت أهم موانئ اليمن على البحر الأحمـر على الإطلاق. تقع مدينة المخا بين واديي الملك وموزع، وهذا الأخير، يعد واحداً من الأودية الرئيسية في جنوب السهل التهامي، حيث تتجمع روافده من جبال محافظة تعز وبالأخص الحجرية لتصب في البحر الأحمر. فالمخا نشأت في دلتا خصبة، وتوافرت لها بذلك ميزة اقتصادية، ساهمت كثيراً في تعزيز موقع المدينة كميناء رئيسي. ارتبط نمو وتطور مدينة المخا ومينائها بتجارة البن، هذه السلعة التي كان لها دوراً تجارياً هاماً استدعت تنافس الشركات التجارية العالمية. هذا الدور التجاري للمخا سرعان ما حولها إلى مدينة ذات صبغة عالمية، تتواجد فيها الجاليات التي تمتهن التجارة من الشرق والغرب. وافتتحت الدول والشركات التجارية الغربية، قنصليات لها في مدينة المخا، وازدهر العمران، وازدهرت معه تقاليد ومظاهر المدنية الحديثة.