نظرتنا للحياة :
اهتم الانسان منذ بدء الخليقة بمعرفة هويته الحقيقية والهدف من الحياة وما ينبغي أن يحققه الفرد لذاته ولمجتمعه ولمن يرثون الحضارة الإنسانية من بعده. وقد ألهم الله عز وجل الانسان من خلال هديه المستمر الذي أنعم به على البشر عبر تتابع الأديان رؤية إنسانية سامية تحفز الفرد على الرقيّ بذاته وسلوكه، والمساهمة في عمار الأرض وإصلاحها، والعمل على بناء حضارة إنسانية قوامها العدل وتقدم الانسان. تطورت هذه الرؤية تدريجيا مع تطور الفكر البشري واتساع مداركه وتكّشف العلوم والمعارف وتقدم المجتمع الإنساني، في مسيرة رافقتها باستمرار الكلمة الإلهية الموحاة إلى البشر من خلال نفوس مقدسة يصطفيهم الله ويبعثهم كأنبياء ورسل هدىً للناس ورحمة. سلسلة من الرسالات تختلف في أسمائها وشرائعها الدنيوية باختلاف الزمان والمكان إلا أنها واحدة في حقيقتها العليا ومتحدة في أصلها الإيماني تعكس توحيد الخالق العظيم، الذي لا تنتهي رحمته ولا ينقطع فيضه عن العالمين. " يا أهل الأرض لا تجعلوا دين الله سببا لاختلافكم إنه نُزِّل بالحقّ لاتحاد مَنْ في العالم" – حضرة بهاء الله الطبيعة الروحانية للإنسان: المتأمل في طبيعة الانسان وتطوره يرى بأنها تتكون من مزيج متناغم من طبيعتين متباينيتن مادي وروحي. فالإنسان من جانب مخلوق مادي يعيش ويتطور جسديا وفقا لقوانين الطبيعة وأحكامها، ويتفاعل مع العالم المادي من حوله ضمن حدود وضوابط طبيعة الأشياء المادية ولن يتمكن من تطوير وتنمية وبناء العالم من حوله دون التبحر في علوم الكون والتمكن من مهارات وفنون التعامل مع العالم المادي الذي يحيط به. ومن جانب آخر فالإنسان مخلوق روحي ترتقي هويته الإنسانية عن القوانين المادية، ويترفّع بمبادئه الأخلاقية وقيمه الفردية والجماعية عن الضوابط المادية والدوافع الغريزية التي تتحكم في سائر المخلوقات. فقد تمكَّنّ الإنسان عبر تاريخه من تبنّي وتطوير مفاهيم انسانية وقيم أخلاقية عليا شكلت العمود الفقري للحضارة البشرية. هذا الجانب الروحي المنعكس من خلال المفاهيم والقيم الإنسانية المكتسبة عبر تجارب البشر وتتابع الأديان يترفع بالإنسان عن كونه مخلوقاً مادياً تنتهي حياته بانتهاء حياته البيولوجية وتمكنه من الارتقاء إلى هوية أسمى من وجوده المادي؛ هوية لا تنتهي بانتهاء سنوات حياته المادية. هذا التمازج الجميل بين الطبيعتين المادية والروحية هو الذي أكسب الإنسان رؤية وبصيرة تتجاوز حدود وجوده المادي الجسدي. بصيرة تدفعه للتميز في العلوم والمهارات والحِرَف المرتبطة بوجوده المادي ليصنع منها حضارة وعلوما ومعارف تتناقلها الأجيال في مسيرة البشرية نحو المزيد من التطور والارتقاء. ان مفاهيم من قبيل تطوير الذات من أجل تطوير الآخرين، والسعي نحو خدمة الفرد والمجتمع، والتفاني والعطاء والبذل من أجل عالم يحظى فيه الجميع بفرص لحياة كريمة، ووضع أنظمة وقوانين ترتقي بمكانة الانسان وهويته، والعمل من أجل تقارب الشعوب ونبذ التعصبات والعنف، كلها نتاج نضج الهوية الروحية للإنسان. فكلما ارتقت هذه الطبيعة الروحية كلما تجاوز الانسان غرائزه المادية ودوافعه الأنانية؛ وكلما ضعفت غلبت عليه الطبيعة المادية. " فضل الإنسان في الخدمة والكمال لا في الزّينة والثّروة والمال، اجعلوا أقوالكم مقدّسة عن الزّيغ والهوى وأعمالكم منزّهة عن الرّيب والرّياء. قل لا تصرفوا نقود أعماركم النّفيسة في المشتهيات النّفسيّة ولا تقتصروا الأمور على منافعكم الشّخصيّة، أنفقوا إذا وجدتم واصبروا إذا فقدتم إن بعد كلّ شدّة رخاء ومع كلّ كدر صفاء، اجتنبوا التّكاهل والتّكاسل وتمسّكوا بما ينتفع به العالم من الصّغير والكبير والشّيوخ والأرامل..." – حضرة بهاء الله تؤكد التعاليم البهائية على أن الحياة الحقيقية للإنسان لا تنتهي بانتهاء حياته الجسدية. فالإنسان يسلك مسيرة نحو النمو والتكامل الروحاني تستمر بعد مفارقة الروح للجسد؛ حيث تنتقل الروح إلى عوالم ملكوتيّة تجني فيها ثمارَ ما اكتسبته في حياتها الدنيوية من مكارم أخلاقية وفضائل إنسانية في طريقها نحو معرفة الله عز وجل وعبادته. بناء على ذلك ينبغي على الفرد أن يعمل في حياته من أجل نموه المادي والروحي ليتمكن من خلال العقل والروح معا السلوك في سبل معرفة الخالق والبحث عن الحقائق وتحرّي رسالته في الحياة ومسئوليته تجاه نفسه ومجتمعه وبني جنسه. فالحياة الايمانية الحقيقية مزيج من التعبّد والعمل. الدعاء والعبادة: يؤمن البهائيون بأن الدعاء وقراءة آيات الله تواصل مباشر بين الانسان وخالقه، فهي كندى الصّباح يهب الطّراوة واللّطافة للقلوب، ويطّهر وينزّه الرّوح من علائق النفس الأمّارة، ويعزز حياته الروحانية. وعندما تقترن قراءة الأدعية وتلاوة الآيات بالتمعن في المعاني والتدبر فيما يرشدنا إليه الخالق عز وجل ينعكس ذلك على مجمل حياتنا ونصبح في حالة تعبدية ترتقي بالعقول والأرواح. وتتجلى القوى الكامنة في الدعاء والعبادة عندما تنبع بكل صدق من قلب طاهر ينشد محبة الله، بعيدا عن الخوف أو الطّلب، وحرّاً من التّظاهر والتعصب. عندئذٍ يستنير العقل وتتكشف الرؤى ويتسع الادراك الإنساني. ” الدعاءُ هو مخاطبةُ الله، ولا يوجد حالةٌ أعظمُ أو أحلى من مخاطبةِ الله. إذ إنَّها تبعثُ الروحانيّاتِ، وتثيرُ اليَقَظَةَ والإحساساتِ الملكوتيّةَ، وتجذبُ تأييداتِ الملكوتِ، وتولِّدُ قابليةً أكبرَ للفهمِ والإدراكِ“ – حضرة عبدالبهاء ويبرز جمال وبهاء الدعاء في اللحظات التي يلتقي فيها أبناء مجتمعنا باختلاف معتقداتهم ومشاربهم وخلفياتهم ليتشاركوا في مناجاة الخالق من خلال قراءة الأدعية وتلاوة الآيات من مختلف الأديان والمذاهب ويتأملوا في الكلمات الربانية التي ترتقي بالنفس وتسمو بالفؤاد وتذكرهم بما تتشارك فيه الأديان من رحمة ومودة وألفة. أجواء روحانية تتعزز فيها قيم التعاون والإخاء ويتوسَّعُ من خلالها ادراكنا لدورنا المشترك في تقدم الوطن ورخاء المجتمع والمساهمة في بناء عالم أفضل. " أن اجتمعوا بالرَّوْح والرَّيْحَان ثم اتلوا آيات الرَّحمَن بها تُفْتَحُ على قلوبكم أبواب العرفان إذاً تَجدوا أنفسكم على استقامة وتَروا قلوبكم في فرح مبين" – حضرة بهاء الله العمل وخدمة الانسان: لا تكتمل العبادة إن لم تكن مقرونة بالعمل. فإدراك الفرد لكلمات الله وآياته يبقى ناقصا إن لم ينعكس على سلوكه وعمله. فمن خلال العمل والتفاعل الإيجابي مع البشر تظهر المعاني الحقيقية للتعاليم الدينية كالأمانة والصدق والصبر والعطاء، وتتكشف المفاهيم العميقة للهدي الإلهي كالعدل وعمار الأرض وتربية النشء والمساواة بين البشر. ففي ميدان العمل والتطبيق يتمكن الفرد من ممارسة تلك التعاليم والمفاهيم واختبار فهمه لمقاصدها وتطوير قدرته على العمل بها. " اصلاح العالم كان وما يزال من الأعمال الطيبة الطاهرة والأخلاق الراضية المرضية" – حضرة بهاء الله (ترجمة) يؤمن البهائيون بأن خدمة مجتمعاتهم والمساهمة في بناء أوطانهم جزء أساسي من الايمان والحالة التعبدية التي ينبغي على الفرد المؤمن أن يتصف بها. وهم في ذلك يرون الناس جميعا باختلاف أعراقهم وأديانهم وأجناسهم إخوة لهم متساوين في الحقوق وشركاء في بناء عالم أفضل. من هذا المنطلق يسعى البهائيون في اليمن إلى المساهمة مع جميع من يحملون رغبة صادقة في بناء البلاد وتقدمه، والعمل الدؤوب لتنمية الفرد والمجتمع وبناء القدرات الفكرية والروحية لدى الشيب والشباب. والمشاركة في بذل الجهود الصادقة الرامية إلى حل الخلافات وإيجاد التآلف والاتحاد، ونشر ثقافة التعايش والتآخي والتسامح بين مختلف مكونات المجتمع اليمني. لتعود يمن الحكمة والايمان سعيدة كما ينبغي لها أن تكون. " قُلْ أَنِ اتَّحِدُوا فِي كَلِمَتِكُمْ وَاتَّفِقُوا فِي رَأْيِكُمْ وَاجْعَلُوا إِشْراقَكَمْ أَفْضَلَ مِنْ عَشِيِّكُمْ وغَدَكُم أَحْسَنَ مِنْ أَمْسِكُم" – حضرة بهاء الله وحدة الروح واتحاد البشر: يتضح مما سبق بأن ما يميز البشر عن سائر المخلوقات هي الطبيعة الروحية. ومهما تباين البشر في تكوينهم المادي من حيث اللون أو العرق أو الجنس أو سائر الصفات الجسدية المادية، إلا أنهم متحدون في أصلهم الروحي، ومتشابهون في العنصر الأساسي الذي يميز الانسان عن سائر الكائنات. فلا لون للروح ولا جنس ولا عرق، ولا تتميز أرواح البشر إلا بما تكتسب من كمالات وقيم وما تتميز بها من خدمة للعالم وسعي نحو معرفة الخالق. " كًلُّكم أثمارُ شجرةٍ واحدةٍ وأوراقُ غصنٍ واحد" – حضرة بهاء الله متى ما تنبه الانسان لهويته الحقيقية، واستشعر طبيعته الروحانية، تهاوت أمامه أسباب الاختلاف والتفرقة وتكشفت هشاشة الأفكار التي طالما صُنِّفَ البشر على أساسها وكانت مبررا لظلم طبقات من البشر وبث التشاحن والبغضاء والعنصرية بين الكثير من الشعوب والأمم. وإذا ما اقترن هذا الادراك للهوية الروحية للإنسان بما اكتشفه العقل من علوم وحقائق عن طبيعة اجسادنا وتشابه جيناتنا زاد يقيننا بضعف دوافع التفرقة وصلابة أسباب الاتحاد. فكيف لنا إذا أن نفرق بين الذكر والانثى وبين الأبيض والأسود وبين مختلف أعراق البشر ما دمنا نؤمن بأننا جميعا وجدنا من أصل واحد وروح واحدة خلقها إله عظيم واحد. " هل عرفتم لما خلقناكم من تراب واحد لئلا يفتخر أحد على أحد، وتفكروا في كل حين في خلق أنفسكم، إذاً ينبغي كما خلقناكم من شيء واحد أن تكونوا كنفس واحدة ..." – حضرة بهاء الله